يهودية "إسرائيل": بداية أم نهاية
بقلم: بيان نويهض الحوت
دعا بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية الفلسطينيين إلى الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل! وليست الغرابة في الدعوة بحد ذاتها، بل في توقيتها. فهو يدعوهم إلى ما هو قائم فعلياً منذ أن قامت إسرائيل، وفي زمن لم يسبق له مثيل في السيطرة الإسرائيلية على الشارع والحارة والمخيم والبيت في جميع أنحاء فلسطين التاريخية. والسؤال: ما دامت إسرائيل تعتقل بدباباتها وعساكرها من تشاء، وتغتال بصواريخها من الجو من تشاء، وتقتلع بحقدها وجبروتها من أشجار الزيتون ما تشاء، وتصادر من الأراضي ما تشاء، بينما الفريق الآخر لا تصل مطالبه إلى أبعد من تجميد الاستيطان لمرحلة محددة! فماذا يكسب نتنياهو حقاً من دعوته هذه في زمن لم تكن فيه إسرائيل أقوى مما هي عليه اليوم، ولم يكن الجانب الفلسطيني فيه أضعف مما هو عليه اليوم؟
ليس من شك في أن المرحلة المقبلة هي أصعب المراحل في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي ـ الصهيوني ـ اليهودي، ومن أجل التوصل إلى مخاطر «يهودية الدولة» نبدأ بتصريحات نتنياهو والتعليقات عليها، ثم نتوقف عند ثلاثة مواضيع يلقي كل منها ضوءاً على مخاطر مفهوم «يهودية الدولة»: أولها عن تطور «يهودية الدولة» من أيام هرتسل إلى عهد نتنياهو؛ وثانيها عن طبيعة النظرة الصهيونية إلى شعب فلسطين؛ وثالثها عن الديموقراطية وعن توافقها أو عدمه مع «يهودية الدولة».
تصريحات نتنياهو
بعد أن تسلم نتنياهو رئاسة الحكومة في منتصف حزيران/يونيو 2009، سارع إلى الإدلاء بالتصريح التالي: «إن الشرط الأساسي لإنهاء النزاع هو الإقرار الفلسطيني العلني، الملزم والصادق، بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي». ومرت الشهور، وكأن نتنياهو لم يعلن عن أسوأ ما بإمكان إسرائيل أن تقوم به تجاه العرب. وكأن ما قاله... «مجرد كلام». وبعد نحو عام ونصف العام تخللتهما عروض لأساليب متعددة من القمع والاضطهاد للسكان العرب، أقدمت حكومة نتنياهو مؤخراً في تشرين الأول/أكتوبر 2010، على إجراء تعديلات على «قانون المواطنة»، بحيث يتضمن أداء قسم الولاء لـ«الدولة اليهودية»، كشرط لاكتساب الجنسية الإسرائيلية.
وتكرّم نتنياهو بعد التعديلات مباشرة، بالإعلان عن دعوته إلى الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، ومما قاله: «إن تعهداً كهذا سيدل على صدق رغبة الفلسطينيين في السلام». كما قال أيضاً: «إن هذا استمراراً لما بدأه بن غوريون، أي دولة لليهود، لا دولة يعيش فيها مواطنون من اليهود» (السفير، 12/10/2010).
ولإثبات المزيد من احتقاره للفلسطينيين ما غاب عن السيد نتنياهو أن يربط مثل هذا الاعتراف من أصحاب الأرض والتاريخ بالمطلب المبكي المضحك، وهو تجميد الاستيطان! وكأنه يقول: اعترفوا أيها الفلسطينيون بدولتنا لنا وحدنا، كي نقر لكم بتجميد بناء المستوطنات لبضعة أشهر!!
أما الاعتراف بنقاء يهودية الدولة، وبحصر الحق في العيش في هذه الدولة بيهود العالم وحدهم، فمثل هذا الاعتراف ـ في حال أقدمت عليه القيادة الفلسطينية السياسية الحالية ـ سوف يتحول إلى نكبة عربية شاملة، أي أن «النكبة» لن تبقى في إطارها الفلسطيني وحده، بل سوف تصبح نكبة العرب الكبرى. كما أنها سوف تذهب مثلاً في التاريخ على نكبة يجرها المنكوبون على أنفسهم، لا أعداؤهم عليهم، فليس هناك ما يجر السلطة الحالية إلى هكذا نهاية غير الضعف الذي لم تبق له من حدود، وهو الضعف الذي جروه هم على أنفسهم وعلى شعبهم المقاوم منذ تسعين عاماً وأكثر. كم مرة مكتوب على شعب فلسطين أن يُقتلع من وطنه حتى يستحق أن يسترد ولو جزءاً من هذا الوطن؟
لنتوقف إزاء النكبات التي امتلأت فيها موانئ فلسطين وحدودها مع جيرانها بأفواج المقتلعين أو اللاجئين، وكأن صفة اللجوء أضحت البديل من الهوية.
كان الاقتلاع الأول سنة 1948 في عهد جامعة الدول العربية، وهي المسؤولة قانونياً وعربياً وميدانياً عن ضياع القدس التي كان ممكناً جداً ألا تسقط. وهي المسؤولة عن نتائج الحرب ومصير شعب فلسطين، مهما عمل المسؤولون فيها على إخفاء وثائق مرحلة النكبة. وكان الاقتلاع الثاني سنة 1967 في عهد الرئيس عبد الناصر، وهو من أعلن تحمله المسؤولية بشجاعة في خطابه إلى الأمة في مساء التاسع من حزيران/يونيو 1967.
غير أن شجاعة القائد لم تواكبها شجاعة المؤخر، إذ لم يتصد مؤرخ أو باحث عربي حتى اليوم للأسباب الحقيقية وللمسؤولية القانونية والسياسية والميدانية لسقوط القدس أولاً، وسقوط ما تبقى من فلسطين ثانياً، علاوة على سقوط سيناء والجولان.
أما الاقتلاع الثالث المقبل فهو ما قد نصل إليه ـ لا سمح الله ـ في عهد السلطة الوطنية الفلسطينية التي ما عاد من هم للناطقين باسمها سوى تجاهل هذا الخطر المرتقب، تحت ستار الألفاظ المنمقة لإخفاء أهمية «يهودية الدولة». إن التصريحات غير المسؤولة لهؤلاء المسؤولين، إن دلت على شيء، فعلى قعر البئر الذي بات يُرى بوضوح لأول مرة، منذ كانت اتفاقية أوسلو. ونكتفي من تصريحاتهم بالتالي:
قال أحدهم: «فلتسمّ إسرائيل نفسها ما شاءت»، وفي تصريح آخر للمسؤول نفسه لجريدة هآرتس الإسرائيلية في 13/10/2010، قال: «إذا قدم الأميركيون خريطة لدولة فلسطين على حدود 1967 فسوف نعترف بدولة إسرائيل على النحو الذي تريده، كما أننا نرغب في تسلم خريطة لدولة إسرائيل التي تريدنا إسرائيل أن نعترف بها».
وفي تصريح لغيره قال وهو يستغرب الضجة في شأن هذا الأمر: « إسرائيل اليهودية.. كما إيران الإسلامية».
وفي تصريح لمسؤول ثالث: «الاستيطان غير شرعي، ويجب المطالبة بتجميد الاستيطان لاستكمال المفاوضات». ويبدو أن صاحب التصريح الأول لا يدري أن الخطر ليس في التسمية بل في القوانين وتطبيقها واقتلاع السكان العرب، وكأنه لا يدرك أن القبول بخريطة يضعها العدو لنفسه من دون أي نقاش هو الضعف المتناهي الذي يصعب تمييزه عما هو أسوأ من الضعف بدرجات.
وكأن صاحب التصريح الثاني لا يدري أن إيران الإسلامية لم تقدم يوماً على اقتلاع إيرانيين من أراضيها مهما يكن انتماؤهم العرقي أو الديني، فالإيرانيون كلهم مواطنون متساوون أمام القانون، وهو حتماً يعلم ذلك لكنه يتجاهل. أما الثالث فما أهمية اعترافه بأن الاستيطان غير شرعي ما دام لا يطالب إلا بتجميده، ولمرحلة؟ فهل يصبح غير الشرعي شرعياً عن طريق التجميد؟ وهل من تفسير لهذا إلا الموقف الضمني بالقبول بـ«غير الشرعي» في نهاية المطاف؟
«يهودية الدولة» من هرتسل إلى نتنياهو
الصفة «اليهودية» هي الصفة المميزة والغالبة في معظم الكتابات الأولى والوعود والقوانين، أي أن إلصاق «اليهودية» بـ«الدولة» ليس أمراً جديداً. فقد كان هرتسل أول من أصدر كتاباً عن تصوراته بشأن الدولة الموعودة، سنة 1896، وأطلق عليه عنوان «دولة اليهود»، والكتاب لم يحتو أي جديد، بل كانت المفاجأة فيه تحول هرتسل نفسه من مسرحي وروائي إلى مفكر سياسي. أما مؤتمر بازل الذي دعا إليه وترأسه هرتسل سنة 1897، فقد انتهى إلى برنامج بازل المشهور، وأبرز ما فيه بنوده الأربعة التي تتمحور على كيفية تحقيق هدف الصهيونية بإنشاء الدولة مستقبلاً، وجاء في مقدمة البرنامج: «تسعى الصهيونية لإقامة وطن لليهود في فلسطين...». وفي صك الانتداب الذي أقره مجلس عصبة الأمم في 24/7/1923، جاء في المادة الثانية تثبيت لوعد بلفور: «تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن جعل البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي...». كما جاء في المادة الرابعة الاعتراف «بهيئة يهودية صالحة كهيئة عمومية لتشير وتعاون في إدارة فلسطين...»، وقد أصبحت هذه الهيئة فيما بعد تُعرف بـ«الوكالة اليهودية»، وكانت تشرف على شؤون اليهود كدولة ضمن الدولة، وهي التي تحولت دوائرها إلى وزارات بمجرد إعلان الدولة نهاية الانتداب. وفي نص قرار التقسيم الصادر في 29/11/1948، جاء ما يلي: «تنشأ في فلسطين الدولتان المستقلتان العربية واليهودية، والحكم الدولي الخاص بمدينة القدس...». وبعد هذا كله أين الغرابة في إلصاق اليهودية بدولة إسرائيل؟
مرة واحدة ابتعد القادة الصهيونيون عن إلصاق اليهودية بالدولة، وكان ذلك حين أنشأوا الدولة فعلاً في 15/5/1948، فكان قرارهم بتسميتها «دولة إسرائيل»، والاسم مشتق من مملكة بني إسرائيل دينياً وتاريخياً، ولا جدال في هذا، غير أن اعتماد هذا الاسم جرى في سياق إقناع الدنيا بعودة المجد الغابر، وكأنه لا توجد عشرات المئات من السنين التي تفصل بين مملكة داود وسليمان في القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد، وبين دولة إسرائيل بزعامة حاييم وايزمان رئيساً وبن غوريون رئيساً للحكومة، في منتصف القرن العشرين.
اليوم يتفوق نتنياهو على رفاقه بإقدامه على التنفيذ، والتنفيذ في هذا المجال يعني اقتلاع من تبقى من الشعب الفلسطيني. أما لماذا الآن؟ فنترك هذا إلى النهاية.
شعب فلسطين بالعين الصهيونية
يصعب الفصل بين العين الصهيونية والعين الاستعمارية التي سبقتها زمناً وتسابقت معها في سياسة التجاهل والتحقير للعرب. ونستعمل هنا «العرب» لأن كلمة الفلسطينيين لم تكن واردة على الإطلاق.
قامت الحركة الصهيونية منذ البداية على شرط القضاء على الوطن الآخر، أي الفلسطيني. أي أن الشرط الأول لتجميع اليهود على أرض فلسطين كان في إلغاء شعب فلسطين، وإن يكن هذا الإلغاء شبه مستحيل. فالتجاهل والتحقير والتحامل على هذا الشعب هي المواقف والآراء التي امتلأت بها كتابات المستشرقين والرحالة والمستكشفين. والخلاصة كانت أن هؤلاء لم يروا في شعب فلسطين إلا شراذم جاهلة متعصبة، لا تؤلف شعباً ولا تستحق أصلاً أن تؤلف شعباً. ومن أبرز المقولات المفرطة في غلوها: «فلسطين أرض بلا شعب»؛ «فلسطين أرض قاحلة منذ ألفي عام!»؛ «لا يوجد فلسطينيون بل جماعات من بدو وفلاحين مسلمين متأخرين». وأحياناً كان أهل فلسطين يسمون عرباً لكن لربطهم بالمعاني السيئة وشتى نعوت التحقير، وأبرزها صفتا الجبن والسرقة، وتبقى القاعدة أن ليس هناك فلسطينيون.
الإجحاف القانوني بشعب فلسطين أو الفلسطينيين ابتدأ مع وعد بلفور الذي لم يرد فيه أي ذكر لهم، وكانت الإشارة إليهم باعتبارهم مجرد «الجماعات غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين»، ولسنا بصدد التوقف عند حقوق تلك «الجماعات» أو «الطوائف» غير اليهودية التي اقتصرت على الحقوق المدنية والدينية، لكن بصدد الأهم وهو كلمتا «المقيمة الآن»، أي أنها سوف يأتي يوم لن تصبح فيه مقيمة في فلسطين.
وجاء قرار التقسيم ليقول بالدولتين المستقلتين العربية واليهودية، كان الاحتجاج الصارخ على فكرة التقسيم بحد ذاتها، غير أنه لم يتوقف أحد عند التركيز على «الدولة العربية» في غير موقعها. فمحو اسم فلسطين والفلسطينيين ابتدأ مع قرار التقسيم، واستمر مع القوانين اللاحقة التي كانت تشير إليهم باللاجئين فقط.
أما في عهد دولة إسرائيل فزعماؤها وقادتها نادوا علناً بطرد العرب نهائياً، وكان من أوائلهم جوزيف وايتس، رئيس قسم المستعمرات في الوكالة اليهودية، الذي قال منذ سنة 1940: «يجب أن يكون واضحاً فيما بيننا بأن لا مكان لشعبين في هذا البلد. نحن لن نحقق أهدافنا مع وجود العرب في هذا البلد الصغير. لا يوجد غير حل واحد هو ترحيل العرب، كل العرب، إلى البلدان المجاورة. ويجب ألا تبقى قرية عربية واحدة، ولا قبيلة واحدة».
وقال بن غوريون سنة 1948: «يجب أن نطرد العرب ونأخذ مكانهم». أما يتسحاق رابين، فهو القائل: «سوف نخفض السكان العرب إلى جالية من الحطابين والخدم». وتفوقت غولدا مئير على الجميع في معرض نفيها وجود الشعب أصلاً، فقالت سنة 1969: «كيف يمكننا أن نعيد الأراضي المحتلة؟ لا يوجد هناك أحد لنعيدها إليه... لا يوجد هناك شيء يدعى الفلسطينيون، فهم لم يوجدوا قط».
أما مناحيم بيغن، رئيس الوزراء سنة 1982، فما نفى وجود الشعب كغولدا مئير، واكتفى بتشبيه الفلسطينيين بالحيوانات، فقال: «الفلسطينيون حيوانات تمشي على قدمين». بينما نتنياهو، تفوق على جميع من جاء قبله بأن عهده عهد التنفيذ وتخليص إسرائيل من الدخلاء الفلسطينيين، وليس عهد كلام!
المرة الوحيدة التي أتى فيها ذكر الفلسطينيين مع شيء من الاحترام كان في «اتفاقية أوسلو»، ولا يحتاج السبب إلى شرح بعد أن مر سبعة عشر عاماً على هذه الاتفاقية، لم تقم خلالها الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، ولم يعد اللاجئون، بل أصبح المقيمون في وطنهم مئات السنين هم المهددين بالتشرد. هل عرفنا لماذا كان احترام كلمة «الفلسطينيين» في الاتفاقية؟ هو مجرد احترام لمصلحة التوقيع النهائي، أما من سوف يوقع باسم منظمة التحرير، فعليه وعلى شعبه ومنظمته السلام! وليبق في أحسن الحالات حكماً يشبه الحكم الذاتي تحت الاحتلال الدائم، لا المؤقت.
الديموقراطية ويهودية الدولة
كان هرتسل صريحاً على الأقل في كتابه «دولة اليهود» حين اعتبر الإعلاء من شأن الدكتاتورية والتحقير من شأن الديموقراطية من أسس دولته. أما الهرتسليون الذين حكموا إسرائيل فما كانت الصراحة من شيمهم، بل الكذب، إذ كان همهم الأكبر التركيز على أن إسرائيل هي واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، بينما هي دولة من أبعد الدول عن الديمقراطية الصحيحة.
والحديث يطول عن يهود جاؤوا إلى إسرائيل وهم طموحون للبقاء فيها باعتبارها الجنة على الأرض، لكنهم غادروها كونها البلد الذي يفتقر إلى الديموقراطية. ونكتفي بذكر اثنين غادراها إلى غير رجعة: الأول إفرايم سي?يلا، اليهودي الصهيوني، الذي جاء من الاتحاد السوفياتي، ولما لم يتمكن من البقاء عاد من حيث جاء، وصدر كتابه «وداعاً إسرائيل». والثاني جاكوبو تيمرمان، الكاتب الروسي ولادة، والأرجنتيني نشأة، والإسرائيلي موطناً، وكان قد دفع بكتابه «الحرب الأطول: إسرائيل في لبنان» إلى المطبعة (1982)، غير انه بعد ان حدثت مجزرة صبرا وشاتيلا، أضاف فصلاً أخيراً علت فيه صرخته ألماً واحتجاجاً. ومما جاء فيه:
تـاريخ فكرة الدولـة ثنائيـة القوميـة
?بدأت فكرة الدولة الثنائية القومية في الوسط الفكري اليهودي أولاً. ولعل مجموعة «بريت شالوم» (أو حلف السلام أو ميثاق السلام) كانت من أولى الحركات السياسية اليهودية التي اعترفت بحقوق قومية متساوية للعرب واليهود في فلسطين. و«بريت شالوم» التي ظهرت في سنة 1925 على أيدي آرثر روبين ويوسف غوروفيتش كانت، على الأرجح، السباقة في الدعوة إلى هذه الفكرة. لكن يهودا ماغنس (1878 ـ 1948) كان المفكر اليهودي الأكثر جذرية في هذا الموقف، فقد أصدر في سنة 1929، أي بعد انتفاضة البراق مباشرة، كتاباً بعنوان «مثل كل الأمم»، قال فيه إن الهدف الذي على اليهود أن يسعوا إليه هو إنشاء مركز روحي للشعب اليهودي في فلسطين، لا دولة يهودية في فلسطين.
وفي سنة 1936 ظهرت منظمة «كديما مزراحا»، أي «نحو الشرق»، وهي مؤلفة من أعضاء «حلف السلام» الذي تفكك سابقاً. وتابعت هذه المنــظمة دعوتها إلى قيام حلف بين العرب واليهود في مواجــهة أنصار «الوطن القومي اليهودي». وفي سنة 1942، ظــهرت حركة «إيحود»، أي الوحدة، على أيدي مارتن بوبر ويهودا ماغنس وسميلانسكي وكالفريسكي. وكان مارتن بـوبر، من معارضي فكرة الدولة اليهودية والوطن القــومي اليهودي. ودعــت حركة «إيحود» إلى قيام دولة ثنائية القومية في فلـسطين مـتحدة فيدرالياً مع الأقطار العربية المجاورة، والسماح بالهـجرة اليهوديــة إلى الدول المجاورة، والمساواة التامة بين العرب واليهود في المؤسسات التشريعية والإدارة وحقوق التملك وحجم السكان.
أبعد من ذلك، فإن العالم المشهور ألبرت آينشتاين أعرب عن قناعته منذ سنة 1927، وكرر ذلك أكثر من مرة (في سنة 1930 وفي سنة 1948 أيضاً) بأن في الإمكان بناء مستقبل مشترك للعرب واليهود معاً. ولم يتورع عن التصريح في 27/11/1949 بأن تقسيم فلسطين كان خطأ، ومن الضروري السعي إلى فلسطين غير مجزأة حيث يعيش العرب واليهود فيها بسلام وحرية ومساواة، أما مارتين بوبر (1878 ـ 1965) فظل يدعو إلى «الإنسانية العبرية» في مقابل «القومية اليهودية، ثم طوّر موقفه هذا إلى فكرة «الدولة الثنائية القومية».
عاشت فكرة الدولة الثنائية القومية ردحاً من الزمن. لكن، مع اندلاع الحرب العالمية الثانية في سنة 1939، بدأ دعاة هذه الفكرة بالضمور، وراح حضورهم الفكري والسياسي ينحسر بالتدريج. وجاءت نتائج حرب 1948 لتقضي نهائياً على هذه الفكرة. «ما هو الشيء الذي حولنا مجرمين على هذه الدرجة من الكفاءة؟
«أنا أخشى أننا في لا وعينا الجماعي، ربما نحن لا نرفض بشكل كلي إمكان إبادة للشعب الفلسطيني. أنا لا أعتقد أننا نحن الإسرائيليين قادرون على الشفاء من غير مساعدة الآخرين».
ونادى تيمرمان بضرورة التحقيق في المجزرة، وهو من قال قبل صدور تقرير كاهان: «إن ثقتي ضعيفة بديمقراطية المعارضة الإسرائيلية. أنا أخشى أن ينتج من النظام الإسرائيلي الذي يسيطر تامة على اللاوعي فينا جميعاً، تحقيق هو في واقع الأمر لحماية المجرمين من العقاب الذي يستحقونه...»
صدق تيمرمان، فتقرير كاهان الذي امتدحته صحف العالم كونه الدليل على الديموقراطية في إسرائيل، هو في الواقع الدليل على عكسها وإن اكتسب شهرة عالمية، ويكفي أن الذين كانوا يكيلون الثناء عليه كثيراً ما كانوا يجيبون عن السؤال: «هل قرأتم التقرير؟» بقولهم: «لا.. لكننا قرأنا عنه». أما تيمرمان فلم يحتمل البقاء، إذ غادر إسرائيل عائداً إلى الأرجنتين.
أما عن «يهودية الدولة» والديمقراطية، وبغض النظر عن حقيقة وجود الديمقراطية أو مدى وجودها في إسرائيل، فالغريب هو تسارع نبض المدافعين عن بساطة المسالة والتسرع بمقارنتها بالدول الأوروبية وغيرها التي ترفع شعارات دينية، أو ترسم الصليب على أعلامها، أو يقوم نظامها على أسس دينية، بقولهم: «لم تتأثر الديموقراطية هناك بشعار أو عَلم أو قانون». وهذا صحيح، غير ان الأوضاع في إسرائيل تختلف كلياً، ذلك أن التمييز بين المواطنين قائم في القوانين التي عُدلت حديثاً فكيف بعد ذلك؟
أما المسألة الأكثر أهمية، فهي إقدام إسرائيل على تنفيذ سياسة الاقتلاع تحت أكثر من حجة وقانون، فهل أضحت البيوت المقدسية كلها مبنية بشكل غير شرعي حتى تهدم منها ما تشاء؟
إسرائيل ليست بحاجة إلى توقيع من السلطة الفلسطينية لتغير اسم دولتها إن شاءت، وهي تعلم القوانين الدولية جيداً، لكنها بحاجة إلى ذرائع لتطبق قوانينها وقراراتها الجائرة المتوفرة لديها حالياً، والتي بإمكانها أن تسن أو تشرع أسوأ منها ساعة تشاء، لتنفيذ سياسة الاقتلاع، وفي الوقت نفسه، لمنع أي من هؤلاء اللاجئين من العودة.
أبمثل هذه البساطة تكون النهاية يا أبطال أوسلو؟
طرحنا في البداية السؤال: لماذا الآن؟ وهذه «الآن» لا ترتبط بالأوضاع الفلسطينية وحدها، بل بالأوضاع العربية بشكل خاص، والإقليمية والدولية بشكل خاص أيضاً. فالقيادة الإسرائيلية تتصور أن هذا هو الوقت الملائم للضغط كيفما شاءت، وللضرب كما يحلو لها، في ظل موازين دولية إلى جانبها مليون بالمئة. هكذا تعتقد.
ومن دون الحاجة إلى التوقف لحظة عند أي من الأوضاع الإقليمية أو الدولية، نتوقف عند الخلاصة؛ فنحن ـ العرب ـ نجابه تحدياً مصيرياً لم نجابه مثيلاً له في تاريخنا المعاصر، فإما أن نصمم على أن نكون أحراراً ومناضلين ومقاومين ولا نرضى بالهوان، وإما ان تغدو «أوسلو» شعاراً عربياً لا فلسطينياً، فحسب.
لا خلاص من غير الاستعداد التام لمجابهة العدو الوسائل الممكنة. بالحرب إن شاءت إسرائيل. بالدبلوماسية حين يصبح استعدادنا للحرب مكتملاً، فلا نكون حينئذ الفريق الأضعف، بل الفريق الذي سُلبت منه حقوقه غير أنه على أتم الاستعداد لنيلها حرباً أو تفاوضاً، أو بأي وسائل أخرى. فالمجابهات اليوم بين الدول والقوى ليست كالماضي، إنها مجابهات فكرية وحضارية والكترونية وتقنية... وعسكرية أيضاً.
وأخيراً، عودة إلى العنوان: أهذه بداية أم نهاية؟
إسرائيل إن استمرت في غلوّها فهذه بداية نهايتها، فرهانها على الحصان الأميركي لن يفيدها مع متغيرات ابتدأت تظهر بين القوى الدولية، فهي مهما تجاهلت هذه المتغيرات لا بد لها من أن تنحني يوماً لها. كما لا بد لها من أن تحترم المتغيرات بين يهود الشتات، فما عادت هي واحدة الأمان التي يلجأون إليها، بل أصبحت هي العبء عليهم.
أما صمود المقاومة في لبنان وفي فلسطين وفي العراق، وأما الساحة العربية الحرة المفتوحة لكل العرب والمقاومين في سوريا، وأما أصوات التحدي ومواقف التحدي التي أخذت تجابه إسرائيل العنصرية حيثما يوجد أصحاب العقول والضمائر، فلن تقوى إسرائيل على الاستمرار في تجاهلها أيضاً. وخاصة أنها في ازدياد. فهل توقعنا قبل خمسين عاماً أن تتغير الأوضاع في تركيا وإيران، والى هذه الحدود؟ هل توقعنا من دول بعيدة كفنزويلا والبرازيل وغيرهما أن تقف مواقف لم يقفها حكام عرب؟
صدق الحاكم الأميركي حين قال إن العالم في زمن العولمة ما هو إلا قرية واحدة. لكننا نختلف جداً معه في معالم هذه القرية.
المصدر: السفير، بيروت، 19/11/2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق