جنوب السودان تحت الرعاية الصهيونية
[ 26/12/2011 - 06:00 ص ]
محمود الريماوي
لم تكن زيارة رئيس جمهورية جنوب السودان بعيدة عن الأضواء كما طلب مضيفوه "الإسرائيليون"، فقد تم التقاط صور للزيارة وخاصة مع شمعون بيريز ثم مع نتنياهو، ثم في زيارته لمتحف ضحايا المحرقة، وقام الضيف سيلفا كير بإطلاق تصريحات إذاعية من أهمها ما نسب إليه بأن دولة "إسرائيل" هي نموذج يحتذى به، وأنه لولا "إسرائيل" لما كانت دولة جنوب السودان.
وهي تصريحات تتجاوز اللغة الدبلوماسية المألوفة في مثل هذه المناسبات، إذ تدل بوضوح على أن العلاقة بين الجانبين قديمة وليست جديدة، وأن ل"الإسرائيليين" دوراً معترفاً به على رؤوس الأشهاد في نشوء الدولة الجديدة، وأن الرجل قام بزيارته لأداء واجب الشكر والامتنان وأنه سيقوم تبعاً لذلك برد الجميل. والأسوأ من ذلك أن الرجل ينظر للدولة الصهيونية نظرة ابن لأب روحي، وهو ما يهيئ لنفوذ كبير ل"تل أبيب" على الدولة الجنوبية. بل إن كير بدا كمن يقوم بزيارة حج مقدسة بالنسبة إليه، حين عبّر عن سعادته الغامرة بزيارة ما سماها "أرض الميعاد".
يعرف كير أن دولته الجديدة ظلت على مدى قرون جزءاً من السودان، ومنذ سنة فقط كان زعماء هذه الدولة يتبوأون مراكز قيادية في جمهورية السودان وهو شخصياً كان نائباً للرئيس، وسبق لكير أن زار عواصم عربية عدة وعلى الخصوص القاهرة. غير أن هذه الاعتبارات لم يولها أهمية تذكر، إذ أوحى أن علاقته بالدولة الصهيونية أعمق من العلاقة مع السودان، وبينما لم يزر أي دولة من دول الشرق الأوسط فقد سارع لزيارة "تل أبيب".
الحماسة التي أبداها الرجل في زيارته "العلنية الأولى" ل"تل أبيب" تثير ريبة كبيرة في نوايا الرجل ودولته، وخاصة مع الحديث عن شبكة واسعة من التعاون بين الطرفين، وتحرص "تل أبيب" في العادة على الإشارة إلى التعاون في المجالات الزراعية والصحية، لإضفاء طابع تنموي وحضاري على علاقاتها مع بقية الدول. ومن الواضح أن المساهمة "الإسرائيلية" في نشأة دولة الجنوب لم تكن مساهمة زراعية وطبية، فليس بمثل هذه المساهمات تقوم الدول.
ولعله ليس من قبيل الصدفة أنه مع وصوله ل"تل أبيب" الثلاثاء الماضي، كانت الأخبار تتحدث عن مصرع أحد كبار معارضيه جورج أطور الذي كان يعتبر أن الانتخابات الأولى في تاريخ تلك الدولة شابها تزوير، وقد ثارت تساؤلات بخصوص هذا التوقيت، حول ما إذا كان لأطراف أمريكية و"إسرائيلية" يد في عملية الاغتيال لتمكين كير وحركته الشعبية من الانفراد بالحكم، وتقرير وجهة سير البلاد من دون أي اعتراض أو معارضة داخلية تذكر.
لا يقل عن ذلك أهمية أن زيارة سيلفا كير تضرب عرض الحائط بانعكاسات هذا الحدث على العلاقة مع السودان الكبير، وبصرف النظر عمن يحكم وطبيعة الحكم في الخرطوم. فالسودان كبقية العالم العربي ما زال في حالة حرب رسمية مع الدولة الصهيونية، التي يكيل لها كير المديح والثناء بطريقة تزيد في حماستها عن تعلق بعض الصهاينة بهذا الكيان.
علاوة على ذلك يشكك دبلوماسيون سودانيون بدور دولة جنوب السودان في تسعير الوضع القائم في إقليم دارفور، ومساندتهم للقوى التي ترفض وضع حد للصراع في هذا الإقليم، وهو ما كشف عنه بيان للخارجية السودانية، وإن قيل إن فحوى هذا البيان هو تكريس للخطاب السياسي للخرطوم بشأن هذه المشكلة، غير أن وقائع سابقة قبل انفصال دولة الجنوب أظهرت أن زعماء الحركة الشعبية لم يظهروا أثناء مشاركتهم في الحكم أي اهتمام بالمشاركة في التوصل إلى حل سياسي لهذه المشكلة رغم أنهم كانوا من كبار قادة جمهورية السودان آنذاك!. من هنا تزداد المحاذير بأن تنشط جوبا في تسعير مشكلة دارفور مستفيدة هذه المرة من خبرات "إسرائيلية" توصف بأنها زراعية وطبية فحسب!.
لمصر أيضاً مخاوفها، فدولة جنوب السودان هي جزء من حوض النيل، وهناك خشية كبيرة من أن تلقي جوبا بثقلها مع التكتل الإفريقي المتشدد المتحكم في مجرى نهر النيل وهو شريان الحياة لمصر، ولن تتردد "تل أبيب" عبر علاقتها الخاصة بالجنوب وبأطراف إفريقية أخرى من الضغط على هذا الشريان وخاصة في ظل الوضع المصري الجديد، وذلك لمنع القاهرة من مراجعة سياستها السابقة حيال "تل أبيب".
دولة جنوب السودان ليست دولة عربية، ولا ينتظر منها أن تضع المصالح العربية في اعتبارها الأول، غير أن عوامل الجوار الجغرافي والعلاقات التاريخية مع مصر وليبيا مثلاً، تملي ألا تتخذ هذه الدولة الناشئة مواقف عدائية من العالم العربي ومن الجار السوداني والمصري ومنذ الأشهر الأولى لولادتها.
ونستذكر أن العالم العربي في عمومه احترم خيار الجنوبيين في تقرير مصيرهم، رغم ما كان يبديه قادة الحركة الشعبية من ود شحيح تجاه العرب، وقد حظيت الدولة الناشئة باعتراف السودان وليبيا وتونس والمملكة العربية السعودية ومصر وحتى السلطة الفلسطينية اعترفت بها. وقد لوحظ أن كير في زيارته ل"تل أبيب" أغفل موضوع السلام وحقوق شعب فلسطين خلافاً لعادة زعماء من دول العالم يزورون "تل أبيب"، وليس ذلك بمستغرب بعد أن وضع كير دولته في وضع أقرب ما يكون إلى دولة تحت وصاية الدولة الصهيونية.
صحيفة الخليج الإماراتية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق