ثورة البراق
أحداث16/8 سنة 1929 الدامية
الشعب الفلسطيني في مواجهة الانتداب البريطاني والصهيونية
يلاحظ أكثر الكتاب أن الفترة الممتدة بين 1925 و 1928 امتازت " بالهدوء " في فلسطين. ويماثل هذا الوضع الأوضاع في الأقطار العربية المجاورة باستثناء سوريا حيث اشتعلت الثورة المسلحة في عام 1925 واستطاعت أن تحقق انتصارات كبرى قبل أن يغرقها الإمبرياليون الفرنسيون في بحر من الدماء. ومن أسباب هذا الهدوء هبوط حدة الخوف العربي من الوطن القومي اليهودي بسبب الأزمة التي انتابته، ففي هذه الفترة بالذات كما كتب هاري ساخر اجتاحت أوروبا الشرقية أزمة اقتصادية انعكست في نمو الوطن القومي اليهودي " فالهجرة إلى البلاد تضاءلت والبطالة تضخمت وفي عام 1927 كانت الهجرة في البلاد ضعف الهجرة إليها ( كتابه إسرائيل: إقامة دولة ص 10 ) . ومع هذا فالحركة القومية لم تتوقف عن النضال السياسي وعقدت مؤتمرها السابع في حزيران (يونيو) 1928 في القدس بحضور 250 مندوباً يمثلون جميع المناطق والأحزاب وقررت : المطالبة بحكومة برلمانية والاحتجاج على كثرة الموظفين الإنجليز في الحكومة الفلسطينية والاحتجاج على تفضيل العمال اليهود على العمال العرب في الأشغال الحكومية والمطالبة بوقف سن القوانين ريثما تؤلف الحكومة البرلمانية .
بداية التغيير
وطرأ تغيير في منتصف عام 1928 حين وقفت حركة الانحدار في الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتجاوز عدد المهاجرين إلى البلاد عدد المهاجرين منها وأصبح عدد اليهود ثلاثة أضعاف عددهم في نهاية الحرب العالمية الأولى أي 150 ألفا. ولم يكن التغيير في الكمية والنوعية مقتصراًَ على عدد السكان اليهود، ففي هذه الفترة تضاعفت مساحة الملكيات اليهودية في الأراضي وارتفعت من 420 دونم ( في عام 1914 – 1918 ) إلى حوالي المليون دونم في عام 1928 ( ورد في تقرير حكومة فلسطين المقدم إلى لجنة التحقيق الانجلو – أمريكية في كانون الأول ( ديسمبر) 1945 إن ملكيات اليهود في 1927 بلغت 903 آلاف دونم ) . ثم إن القيادة الصهيونية في سبيل توطيد مواقفها في فلسطين تشددت في ممارسة سياستها القومية الانعزالية من ناحية والعدوانية من الناحية الأخرى: سياسة احتلال العمل واحتلال الأرض.وكتب ولتر بريوس كما ذكرنا في كتابه حركة العمال في فلسطين يصف نهج قيادة الهستدروت في هذه الفترة:" ومارس وجود جماهير واسعة من العمال غير المنظمين (وجلهم من العرب ) الذين ألفوا هيئة منافسة، ضغطاً مستمراً على شروط العمل التي فاز بها العمال المنظمون مما جعل الاعتراف القانوني بأساس الاحتلال أمرا ضرورياَ محتماً"(ص90).وأضاف في فصله الفرعي " العلاقات بين طائفتي العمال اليهود والعرب ، اضطرابات 1929 وأثرها على الحركة العمالية " :" لقد وجد العامل اليهودي كيانه مهدداً من منافسة العمل الرخيص. وبما أن الأكثرية الساحقة من طائفة العمال اليهود التزمت طبيعياً الفكرة القائلة أن أساس تحقيق الصهيونية خلق جمهور واسع من العمال اليهود في البلاد فقد تعهدوا تعهداً لا رجوع عنه بمبدأ العمل اليهودي في الاقتصاد اليهودي " ( وهو اصطلاح أخر لاحتلال العمل ) ( ص92-93) .
والتزام احتلال العمل أصبح مبدأ من مبادئ الكيبوتسات كما اقرها مجلس توحيدها الذي عقد في بيتح تكفا في 5 آب (أغسطس ) 1927 وجاء فيه " السعي لاحتلال الأعمال للعمال اليهود وتحسين أوضاعهم الاقتصادية أي احتلال العمل في المنشآت اليهودية والحكومية وتطوير فروع عمل جديدة ". ) المصدر ذاته ص 104 ). وأكد هذا الاتجاه بيرتس مرحاب في كتابه " تاريخ الحركة العمالية في فلسطين ". ففي تعريفه برنامج هبوعيل هتسعير ( أو العامل الشاب – منظمة العمال القيادية في هذه الفترة – أ. ت ) كتب: في تحقيق الصهيونية، يقوم بدور حاسم احتلال المواقع الاقتصادية والثقافية في " ارض إسرائيل ". إن الشرط الضروري للاحتلال الاقتصادي هو تركيز الممتلكات والعمل في أيدي يهود، وأضاف أن دور هبوعيل عتسعير في ارض إسرائيل هو العمل على تحقيق الصهيونية عامة والاهتمام باحتلال العمل ( ص 73 ). وكان ابرز حدث في الحركة الصهيونية في عام 1929 قيام الوكالة اليهودية.لقد نصت الفقرة الرابعة من نظام الانتداب الذي اعتمدته حكومة الانتداب على أن الحكومة البريطانية في فلسطين ستعترف بالوكالة اليهودية هيئة عام تقوم بدور النصح وتتعاون مع الإدارة الفلسطينية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية وغيرها مما يؤثر على بناء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين. وفي المرحلة الأولى اعترفت الإدارة الفلسطينية بالمنظمة الصهيونية وكالة يهودية.ولكن المؤتمر الصهيوني العالمي الثالث عشر الذي عقد في كارلسباد بين 6 و18 آب (أغسطس) 1923 دعا لجنته التنفيذية إلى العمل على إقامة مؤتمر يهودي عالمي يقوم مقام الوكالة اليهودية. وأيد هذه الدعوة المؤتمر الصهيوني العالمي التالي الذي عقد في فينا في آب 1925 اعترافا منه – كما جاء في القرار برغبة اليهود في العالم في المساهمة في بناء الوطن القومي بروح تصريح ( وعد ) بلفور. وكان أساس التعاون اليهودي العالمي أو هدف هذا التعاون: زيادة الهجرة إلى فلسطين.. واستخلاص الأراضي وجعلها ملكية الشعب اليهودي.. والاستيطان الزراعي الكولونيالي القائم على العمل العبري... وبعث اللغة والثقافة اليهودية ( فكرة الدولة اليهودية بن هلبرن ص 179 ). وكان القصد من وراء إقامة الوكالة اليهودية استنفار يهود العالم – وخاصة الأغنياء الذين لا يتماثلون مع أيديولوجية الصهيونية الجوهرية (القائمة على جمع الشتات واستحالة العيش في المهجر وإقامة الدولة اليهودية ) استنفارهم لمد يد العون لإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين واستقرار اليهود فيها . واستفز تأليف الوكالة اليهودية على قاعدة عالمية أوسع مخاوف محافل مقررة في الشعب العربي الفلسطيني خصوصاً إزاء ازدياد عدوانية القيادة الصهيونية التي استمدت مزيداً من الثقة من هذه الخطوة. وليس من قبيل الصدفة أن تعتبر المصادر البريطانية والصهيونية حوادث عام 1929 رداً على قيام الوكالة اليهودية. ( كتب هذا بالضبط حاييم وايزمن في كتابه " التجربة والخطأ " ص 331 ).وقد جرت هذه التغييرات في ظروف عينية أسهمت الممارسة الصهيونية في خلقها، ومن أبرزها ازدياد عدد الفلاحين المعدمين الذين الفوا في هذه الفترة – حسب بيان الحكومة البريطانية في عام 1930- 29.4 % من الفلاحين أو 86,980 عائلة ريفية ( تقرير اللجنة الفلسطينية الملكية لعام 1938 ص 329 ) . والقول أن الصهيونية أسهمت في زيادة عدد الفلاحين المعدومين يعود إلى أن استملاك المنظمات الصهيونية الأراضي الزراعية أدى إلى إجلاء المزارعين العرب منها، فمعروف أن الإقطاعيين العرب وفي بعض الحالات الإقطاعيين الغائبين (في لبنان) هم الذين باعوا مساحات واسعة من الأراضي الزراعية التي كان يفلحها المزارعون العرب خلال أجيال وبذلك جردوا أولئك المزارعين من حقوقهم وساعدوا الصهيونية، والسلطات البريطانية التي ايديتها، على اقتلاع المزارعين من تربتهم وتشريدهم.وهكذا فإذا تذكرنا مساوئ حملات احتلال العمل، التي كان العمال العرب ضحيتها، وسياسة الادراة البريطانية في " تفضيل العمال اليهود على العمال العرب " كما أشار إلى ذلك المؤتمر السابع عام 1928. فعندئذ نستطيع أن نتصور شعور النقمة على الإدارة البريطانية والصهيونية في هذه الفترة بين الجماهير الشعبية. وزاد في هذه النقمة أن البرجوازية العربية الضعيفة جداً كانت تشعر بالخطر على مصالحها من جراء النشاط المتزايد الذي تقوم به البرجوازية اليهودية بالتعاون مع مؤسسات احتكارية أجنبية. ( في هذه الفترة بريطانيا وجنوب أفريقيا في الأساس ). ولعل قرار المؤتمر السابع الاحتجاج على إعطاء امتياز البحر الميت لشركة أجنبية، والاحتجاج السابق على منح " روتنبرغ " امتياز توليد الطاقة الكهربائية كان تعبيراً عن هذه النقمة الناجمة عن تلك المخاوف.
كل هذا في وقت كانت الحركة القومية تواصل فيه المطالبة بحكم وطني وبدستور يمنح البلاد استقلالها.
حوادث عام 1929
يتفق المؤرخون جميعاً على أن حوادث عام 1929 أدت إلى سقوط قتلى وجرحى من العرب واليهود. ولكنهم يختلفون على كل شئ أخر حتى على عدد الضحايا من الجانبين التي بلغت حسب الإحصاءات الرسمية آنذاك 133 قتيلاً و339 جريحاً من اليهود و116 قتيلاً و232 جريحاً من العرب.ومن الممكن إيجاد قطاع واسع من المؤرخين يتفقون على أن الإمبرياليين البريطانيين قاموا بدورهم الخبيث بتأجيج الاحتراب العنصري بين اليهود والعرب استرشاداً بمبدأ " فرق تسد ". ولكن هنا ينشب الخلاف بين الاتفاق العام. فالصهيونيين يتهمون الإدارة البريطانية في فلسطين في تحريض العرب وتشجيعهم على الإضرار باليهود وبوطنهم القومي. في حين تقوم أطروحة المؤرخين العرب على أن الإمبريالية البريطانية ساندت الصهيونية مساندة كاملة وتعاونت مع قيادتها في فلسطين باستمرار، ولا يغير من هذه الحقيقة وجود خلافات بين الجانبين.
والآن ماذا جرى في عام 1929 ؟ .
تبدأ الرواية العربية بالتأكيد على أن حائط المبكى ، ويسمونه البراق أيضا ليس جزءا من الحائط الخارجي للهيكل القديم فحسب بل هو جزء من الحرم الشريف أيضا ، ولهذا فاليهود يقدسونه والمسلمون يحترمونه احتراماً عظيماً .كذلك تؤكد الرواية العربية أن البراق ملك للمسلمين منذ الفتح الإسلامي وهم يحتفظون بصكوك بهذا المعنى تخولهم حق إدارة المكان . وخلال السنين والاتفاق غير المكتوب قائم بين إدارة الوقف الإسلامي واليهود المتدينين من حيث الزيارة والصلاة بالقرب منه. وينص الاتفاق على أن لا يقيم اليهود أي بناء بالقرب من الحائط أو يضعوا أي شئ في باحته . وتلاحظ الرواية العربية أن الإدارة البريطانية حظرت بطلب من الوقف الإسلامي – على المسؤولين اليهود وضع مقاعد في باحة البراق لان ذلك يغير الوضع القائم ويعتبره المسلمون تجاوزاً على حقوقهم، كما أنها أمرت البوليس في أيلول (سبتمبر)1928 برفع الستار الذي وضعه اليهود في عشية عيد الغفران على الرصيف المحاذي للبراق بعد أن شكا ذلك المسلمون.
وبعد ذلك تعرض الرواية العربية الحقائق على الوجه التالي: · في يوم 14 آب (أغسطس ) 1929 ( عشية 9 آب يوم الصوم استذكاراً بخراب الهيكل ) تظاهر اليهود في تل أبيب وهتفوا: الحائط حائطنا.. العار من نصيب كيث روش (حاكم القدس الذي أمر برفع الستار في العام الماضي). · وفي اليوم التالي جاء وفد من شباب تل ابيب إلى القدس وسويا مع يهودها تظاهروا في مظاهرة صاخبة اخترقت الشوارع في اتجاه حائط المبكى (البراق) وترددت فيها الهتافات نفسها الحائط حائطنا. · وفي اليوم التالي قام المسلمون بدورهم في مظاهرة صاخبة وصلت إلى باحة البراق (حائط المبكى ) وخلال ذلك قلبوا طاولة الشماس واخرجوا الاسترحامات التي يضعها عادة المصلون اليهود في شقوق الحائط، ومزقوا ثياب الشماس وتفرقوا إلى بيوتهم. · لقد مرت المظاهرات الثلاث في سلام ولكنها شحنت الجو بالتوتر وأشاعت مزيداً من الشكوك والريبة بين العرب واليهود ولذلك ما إن وقعت حادثة محلة البخارية في القدس (طعن فيها احد العرب احد الشباب اليهود الذي دخل بستانه لاسترجاع كرته في أعقاب مشاجرة بينهما توفي بعدها )، حتى اشتعل الجو وبدأت سلسلة المصادمات بين العرب واليهود في مختلف أنحاء البلاد. وفعلاً في يوم حادثة البخارية، 17 آب ( أغسطس) 1929، وقعت مشاجرة عامة بين العرب واليهود جرح فيها احد عشر يهودياً وخمسة عشر عربياًَ.
· وفي 23 آب سرت إشاعة مفادها أن اليهود قتلوا عربيين " فهاجت خواطر العرب وما لبث أن سرى الهياج إلى القرى المجاورة ثم اتسع وشمل القرى والمدن وفي مقدمتها يافا وحيفا وصفد والخليل، وقامت مظاهرة هائجة في نابلس للإعراب عن سخطها واستيائها وتحولت الاضطرابات في الخليل، إلى مذبحة يهودية عمومية قتل فيها 60 يهودياً وجرح أكثر من خمسين ".
· استمرت الاضطرابات وخلال هذا هجم اليهود على العرب في أكثر من موقع وقتلوا بدورهم بعض العرب ومن بينهم إمام مسجد سكنة ابي كبير وستة من أفراد عائلته. · وانتهت الاضطرابات في 29 آب 1929 بحوادث صفد حيث قتل وجرح فيها 45 يهودياً وعدد غير محدد من العرب. · وفي حالات عديدة كانت الضحايا بين العرب نتيجة الاصطدام مع البوليس والجيش الذي استنفر إمدادات وصلت إليه من مصر خلال أيام الاضطرابات الأولى. (اعتمدت في هذه الرواية على كتاب عيسى السفري " فلسطين بين الانتداب والصهيونية " باعتبارها نموذجاً لما كتبه العرب حول هذه الحوادث ص 124-127). وقوم القوميون العرب هذه الحوادث انتفاضة قومية ضد الصهيونية والانتداب البريطاني. أما الرواية الصهيونية فتعرض الحقائق على الوجه التالي: · تؤكد أن الحاكم البريطاني كيث روش بضعفه وتراجعه أمام العرب شجعهم على التمادي في تجاوزهم حقوق اليهود في حائط المبكى.· المظاهرة التي جرت في القدس كانت احتجاجاً على أعمال العرب الاستفزازية بقذفهم المصلين اليهود بالحجارة في اليوم السابق.· وتتفق الروايتان حول حادثة البخارية وانتشار الشائعات إلا أن الرواية الصهيونية تقول إن العرب روجوا، متعمدين اهاجة الخواطر، إن اليهود يعدون هجوماً على مسجد الصخرة وقد حرضوا ألاف الفلاحين العرب، الذين تقاطروا على المسجد في القدس من الخليل والقرى المجاورة للصلاة كعادتهم يوم الجمعة من كل اسبوع، فاقترف هؤلاء المذبحة.· وهناك نسختان للرواية الصهيونية. فرواية تكتفي بالقول إن العرب قتلوا اليهود العزل ولا تذكر عدد القتلى من العرب في هذه الحوادث التي استمرت أسبوعين. ورواية أخرى تلاحظ أن قتل اليهود جرى في المواقع التي لم يكن فيها تنظيم دفاعي في حين صد العرب في المواقع اليهودية المحصنة. · ويلقى اليهود المسؤولون الصهيونيون مسؤولية خاصة على السلطة البريطانية في الخليل التي لم يتخذ احتياطات دفاعاً عن المواطنين اليهود هناك، على الرغم من تحذيرهم مندوبي السلطة هناك. وهنا أيضا تتباين ماهية التهم، فمن الكتاب الصهيونيين من يضع اللوم على الإدارة البريطانية المحلية في فلسطين، وهناك من يضعها على الحكومة البريطانية في لندن (اعتمدنا في عرض الرواية الصهيونية في الأساس على كتاب ولمي ل. هل "سقوط إسرائيل ونهوضها " ص 158-159 ) .أما تقويم الصهيونية لهذه الحوادث فيجمل بوصفهم إياها " المذبحة " (البوجروم) التي لا تختلف عن المذابح التي تعرضت لها الطوائف اليهودية في أوروبا واتسمت بالاسامية . وفي اغلب المصادر الصهيونية يصف الكتاب الصهيونيون حوادث 1929 " بالاجرام " والعرب الذين اشتركوا فيها " بالقتلة والمجرمين ".
وألان ماذا كان المواقف البريطاني الذي تماثل في نظرته إلى الأمور مع الرواية الصهيونية ؟ لقد جسمه المندوب السامي البريطاني جون تشانسلور الذي كان وقت الحوادث في بريطانيا فعاد على إثرها وأصدر بياناً جاء فيه: " عدت من المملكة المتحدة فوجدت بمزيد من الأسى أن البلاد في حالة اضطراب فأصبحت فريسة لأعمال العنف غير المشروعة.. وقد راعني ما علمته من الأعمال الفظيعة التي اقترفتها جماعات من الأشرار سفاكي الدماء عديمي الرأفة وأعمال القتل الوحشية التي ارتكبت في أفراد من الشعب اليهودي خلوا من وسائل الدفاع بقطع النظر عن عمرهم وعما إذا كانوا ذكوراً أو اناثاً والتي صحبتها – كما وقع في الخليل- اعمال همجية لا توصف وحرق المزارع والمنازل في المدن والقرى ونهب وتدمير الأملاك.. فواجبي أن أعيد النظام إلى نصابه في البلاد وان اوقع القصاص الصارم بأولئك الذين يثبت أنهم ارتكبوا أعمال عنف " (1)وهكذا أدانت الإدارة البريطانية العرب " بالجريمة " ولكنها كشفت في الوقت ذاته عن استخدامها هذه " الجريمة " لضرب مطالب الشعب العربي في فسطين.
ففي بيانه المذكور أعلن المندوب السامي كذلك انه سيؤجل المباحثات التي كان ينوي إجراءها مع وزير المستعمرات لإحداث تغييرات دستورية وفقاً لتعهد إعطاء اللجنة التنفيذية العربية التي طالبت في مؤتمرها السابع بحكومة وطنية وعادت وطالبت لمندوب السامي بذلك في حزيران (يونيو) من ذلك العام كما يظهر ذلك من بيانه (نص البيان في كتاب عيسى السفري المذكور ص 129 ).
وعند هذا الحد يصح السؤال: كيف يمكن تقويم هذه الحوادث التي وقعت في عام 1929؟ وهنا لا بد من رؤية وجهيها. فهي لم تكن مجرد اصطدامات بين عرب ويهود ، بل كانت جوهريا هبة جماهيرية في وجه الإدارة البريطانية الإمبريالية ، وهذا ما جسمته التظاهرات الشعبية لا في المدن المختلطة فحسب ، بل في المدن العربية الخالصة مثل نابلس. وهكذا لم تكن هذه التظاهرات عنصرية بالمعنى المعاصر بل كانت معادية للإمبريالية البريطانية.
وهذا ما لاحظته اللجنة التنفيذية في ردها على بيان المندوب السامي فأعلنت " أن اضطرابات فلسطين السابقة والحالية إنما هي ناشئة مباشرة عن السياسة البريطانية الصهيونية التي ترمي إلى إخفاء القومية العربية في وطنها الطبيعي لكي تحل محلها قومية يهودية ولا وجود لها " . وهذا ما جعل الشيوعيين اليهود والعرب يقيمون الحوادث بعض النظر عن سلبية بعض مظاهرها والمآسي التي سببتها انتفاضة قومية معادية للإمبريالية والصهيونية في جوهرها. وهذا التقويم انزل عليهم غضب القيادة الصهيونية وحقدها فاتهمتهم "بالعمالة" للأممية الثالثة وموسكو.
ولا ينفي تقويم هذه الحوادث بوصفها انتفاضة قومية رؤية وجهها السلبي الناجم عن الانحراف في التوجه النضالي بسبب قيادة الحركة القومية العربية انذاك. ولكن هذا الوجه السلبي الذي شجعه الإمبرياليون البريطانيون ساعده القادة الصهيونيون في توجههم الانعزالي القومي وسياستهم المعادية للجماهير العربية كما تجلت في احتلال العمل والأرض. ولا يستطيع الباحث الموضوعي إخفاء مساهمة القيادة الصهيونية في حوادث 1929. واللجنة التنفيذية العربية اعتمدت على الوقائع حين أعلنت في بيانها رداً على المندوب السامي أن أكثر اليهود كانوا مسلحين وان الحكومة سلحتهم، وقد قتلوا مع الجنود النظاميين النساء والأطفال والرجال العرب وكانوا البادئين في بعض الحالات. ( كتاب عيسى السفري ص130) .
ولابد من القول إن القيادة الصهيونية اعتبرت الاصطدام بين العرب واليهود محتوماً وكانت تعد له على كافة المستويات وفي جميع الميادين. وقد أورد ميخائيل بار زوهر في كتابه " النبي المسلح " تاريخ حياة بن غوريون قول بن غوريون بعد مقتل احد الحراس اليهود في عام 1909: " ذلك اليوم ( يوم مقتل الحارس ) فتحت عيني وأدركت أن عاجلاً أو آجلا أن ستجري تجربة قوة بيننا وبين العرب.. ومنذ ذلك اليوم في شجرة ( حيث قتل الحارس ) شعرت أن الصراع محتم " . وأضاف الكاتب أن الصراع اليهودي العربي لم يبدأ في شجرة ولكن في ذلك اليوم من أيام نيسان (ابريل) عام 1909 أدرك أولئك الذين أصبحوا زعماء اليهود فيما بعد انه إن عاجلاً وان آجلا سيصطدم الجنسان وستسود القوة... وحتى قبل حادثة الشجرة كان شعار منظمة (الحارس) التي أقامها بن زفي (رئيس الجمهورية الثاني ) وأصحابه " لقد سقطت (مملكة ) يهودا بالنار والدماء وستنهض من جديد بالنار والدماء " ( ص2) .لقد اتهم عدد من الكتاب الصهيونيين القيادة العربية بأنها اقحمت الدين في عام 1929 بالصراع السياسي، وبغض النظر عن صحة هذه الحقيقة التي قلنا اتخذت شكلاً تنظيمياً بوصول المفتي الحاج أمين الحسيني إلى القيادة . فالحقيقة التي لا بد من تأكيدها هي أن الصهيونية اعتمدت في بنائها عناصر الدين اليهودي وبذلك سهلت أن تتحول، مشكلة دينية، مثل صلاة اليهود في باحة البراق ( أو حائط المبكي )، إلى قضية سياسية تحرك جماهير تل ابيب والقدس. ومع هذا فمهما يكن من أهمية لهذا العامل فهو عامل ثانوي لم يبدد العامل القومي .وهذا ما اعترفت به لجنة التحقيق التي أرسلتها بريطانيا إلى البلاد لتحقق في أسباب الحوادث برئاسة سير ولترشو ، فقد أعلنت أن الصراع ناجم عن التناقض بين الوطن القومي اليهودي ومطالب الحركة العربية القومية بالاستقلال . فتحقيق المطالب القومية العربية يلغي الوطن القومي اليهودي. وعزت اللجنة أسباب التوتر في علاقات الشعبين والحوادث الدامية الناشئة عنه إلى مخاوف العرب من المهاجرين واعتقادهم أنهم لن يكتفوا بمشاركتهم في البلاد.وأضافت: " واشتدت هذه المخاوف بالتصريحات الصهيونية السياسية الأكثر غلواً مما جعل العرب يرون في المهاجر اليهودي ليس خطراً على مصدر معيشتهم بل سيدا قد يسيطر عليهم في المستقبل . ( تقرير اللجنة الملكية الفلسطينية لعام 1937 ص 68-69) .
الهوامش
1- وفعلاً حكم على 22 عربياً بالإعدام ونفذ الحكم بثلاثة اعتبرتهم الحركة القومية شهداء أبرارا.
المصدر:
ايميل توما، جذور القضية الفلسطينية (الأعمال الكاملة) المجلد الرابع، حيفا 1995.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق